بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه واخوانه وحزبه
قال الإمام أحمد بن جلال اللاري المصري في كتابه: "جلاء الصدإ": "كان السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه يسكت حتى يقال: إنه لا يتكلم. فإذا تكلم بَلَّ بعذوبة كلامه الغليل، وداوى العليل. ترك نفسه وتواضع للناس، من غير حاجة. وكظم غيظَهُ من غير ضجر. وكان ليِّن العريكة، هيِّن المؤنة، سهلَ الخلق، كريم النفس، حسن المعاشرة، بسّاما من غير ضحك، محزونا من غير عبوس، متواضعا من غير ذلة، جوادا من غير إسراف. اجتمعت فيه مكارم الأخلاق.
"كان فقيها عالما مقرئا مجودا محدثا مفسرا. وله إجازات وروايات عاليات. إذا تكلم أجاد، وإذا سكت أفاد. يأمر بالمعروف لأهله، وينهى عن المنكر وفعله. كان كهف الحَرائِرِ، وملجأ المحتاجين، وكعبة القاصدين. أبا للأرامل والأيتام، يعطي من غير سؤال، ويمنح من غير إهمال. وإذا قال قولا أتبعه بصحة الفعل، وصدقِ القول، ولم يخالف قوله فعله قط".[1]
كان يغلب عليه خُلُق التواضع وهو العالم الجليل، الشيخ المحترم. وكان يعالج المرضى والعُرجان والعميان بنفسه. قال رحمه الله: "سلكت كل الطرق الموصلة فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الافتقار والذل والانكسار. فقيل له: يا سيدي! فكيف يكون (هذا الطريق)؟ قال: تُعظِّم أمر الله وتُشفق على خلق الله، وتقتدي بسنة سيدك رسول الله".[2]
كان الافتقار الذي اتخذه رضي الله عنه طريقا هو الافتقار إلى الله عز وجل. وقد انتسب إلى طريقته من بعده طائفة جعلوا افتقارهم أكل الحيات والنزول في النار والدخول إلى الفَرَّان وركوب السباع. وهذا تزييف. وطائفة أخرى من تلامذة طريقته لا يزالون على مذهبه القويم.
كان ذله وانكساره لله عز وجل لا لغيره، وكان تواضعه ذلَّة على المومنين ورحمة للخلق المستضعفين. أما كُبَراءُ الدنيا من الظلمة فكان لا يقيم لهم وزنا. قال صاحب الشذرات: "كان لا يقوم لأحد من أبناء الدنيا، ويقول:[grade="ff0000 Ff0000 Ff0000 Ff0000 Ff0000"] النظر في وجوههم يقسي القلب[/grade]".[3]
ويؤكد الشيخ أحمد الرفاعي الشرط الأساسيَّ في المربي المصحوب كما أكده الغزالي وكما يؤكده كل العارفين الواصلين. ألا وهو شرط تسلسل السند الواصل إلى حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: "صَحَّتْ أسانيد الأولياء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. تلقَّن منه أصحابه كلمة التوحيد جماعة وفُرادَى واتصلت بهم سلاسِلُ القوم".[4]
ويصلُ الإمام رضي الله عنه وصيته بالذكر بوصيته بالصحبة. والصحبة والذكر، مع الصدق والإخلاص من جانبي الصاحب والمصحوب، هما الركنان الأساسيان، والشرطان المتلازمان، في رفع الأقدام ووضعها في الخَطْو على الطريق.
قال قدس الله سره العزيز: "عليكم، أي سادة، بذكر الله. فإن الذكر مغناطيسُ الوصل وحبل القرب. من ذكر الله طاب بالله، ومن طاب بالله وصل إلى الله.
"ذكر الله يثبت في القلوب ببركة الصحبة. المرء على دين خليله (كما جاء في الحديث الصحيح).
"عليكم بنا! صحبتنا تَرياقٌ مُجَرَّبٌ! والبعد عنا سم قاتل!
"أيْ محجوبُ! تزعم أنك اكتفيت عنا بعلمك! ما الفائدة من علم بلا عمل! ما الفائدة من عمل بلا إخلاص!
"الإخلاص على حافة طريق الخطر! من ينهض بك إلى العمل! من يداويك من سم الرياء! من يدُلك على الطريق القويم بعد الإخلاص! "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". هكذا أنبأنا العليم الخبير.
"تظن أنك من أهل الذكر! لو كنت منهم ما كنت محجوبا عنهم. لو كنت من أهل الذكر ما حُرِمْت ثمرة الفكر. صدك حجابُك! قطعك عملك!".[5]
هذه الصفحة تلخِّصُ الشروط الثلاثة الأساسية في السلوك: الصحبة والذكر والصدق. في هذه الصفحة الرائعة تقرأ تلازمها وتسانُدَها وبناء بعضها على بعض، وانتقاض بعضها بانتقاض بعض. ولا تجد دَالاًّ على الله من أهل التربية إلا ونظام هذه الشروط عنده قارٌّ، وإن تنوعت الفروع والتطبيقات.
والصحبة هي الباب وهي المفتاح.
قال الإمام الرفاعي يوصي بالأدب مع الشيخ المربي: "ولا ترغب في الكرامات، فإن الأولياء يستترون من الكرامات كما تستتر النساء من الحيض. ولازم باب الله. ووجه قلبك لرسول الله. واجعل الاستمداد من بابه العالي بواسطة شيخك المرشد. وقم بخدمة شيخك بالإخلاص من غير طلب ولا أرَبٍ، واذهب معه بمسلك الأدب. واحفظ غَيْبَتَهُ، وتَقَيَّدْ بخدمته، وأكثر الخدمة في منزله، وأقلل الكلام في حضرته. وانظر إليه بنظر التعظيم والوقار، لا نظر التصغير والاحتقار".[6]
ثم يجمل الشيخ الرفاعي نصائحه للسالك فيقول: "وقم بنصيحة الإخوان، وألِّفْ بين قلوبهم. وأصلح بين الناس، واجمع الناس، مهما استطعت، على الله بطريقتك. ورغب الناس بالصدق للدُّخول في باب الفقراء، والسلوك بطريق القوم.
"وعمر قلبك بالذكر، وجمل قالبك بالفكر، ونور نِيَّتكَ بالإخلاص. واستعن بالله، واصبر على مصائب الله، وكن راضيا من الله. وقل على كل حال: الحمد لله.
"وأكثر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن تحركت نفسك بالشهوة أو الكِبْرِ فصم تطوعا لله. واعتصم بحبل الله. واجلس في بيتك، ولا تكثر الخروج للأسواق ومواضع الفُرَج. فمن ترك الفُرَجَ نال الفَرَجَ(...). واذكر الله في كل أمر، وأخلص له في السر والجهر".[