بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة و السلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى اله و صحبة اجمعين
اضع بين ايدكم كتاب تبادلة خليفة المسلمين في زمانة المستنجد بالله مع الشيخ احمد الرفاعي.
كتب الخليفة المستنجد بالله العباسي [ هو أبو المظفر المستنجد بالله بن المقتفي لأمر الله ، ولد سنة 518. هـ ، وبويع بالخلافة بعد والده في 3 ربيع الأول لسنة 555 هـ ، وأستمر خليفة إلى أن مات في تسع من ربيع الآخر سنة 566 هـ ، فكانت خلافته 11 سنة رحمه الله ( المجالس الرفاعية ص 31 ) ] إلى سيدنا الرفاعي كتاباً قال فيه :
بســـم الله الرحمن الرحيــم
" من أمير المؤمنين / إلى السيد العارف الزاهد الشريف الدال على الله بهدس رسوله صلى الله عليه وآله وسلم : أحمد بن الشريف أبي الحسن البطائحي العلوي ، نفع الله به المسلمين .
أما بعد :
فإني أسألك بالله أن تكثر من النصيحة لي بجوابك ، فإني في حاجة لنصيحتك وأي حاجة ، ولا ريب عندي بحصول بركة نصحك لي إن شاء الله ، فأجبني بما يفتح الله به عليك مكثراً ، فإنك مهبط الفتح اليوم ، وأسألك الدعاء لي وللمسلمين .
نصيحته للخليفة : [ قلت : قال ابن الأثير في " جامع الاصول " 11:558 " النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة ، وهي : إرادة الخير للمنصوح له ، وليس يمكن أن يعبر عن هذه اللفظة بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غيرها . وأصل النصيحة في اللغة : الخلوص "أ أنتهى ]
وقد كتب إليه سيدنا الرفاعي بما يلي :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيد خلقه محمد عبده وحبيبه ومصطفاه .
أما بعد :
فمن الفقير إلى الله أحمد بن أبي الحسن كان الله له ، إلى الإمام الخليفة المطاع أمير المؤمنين أبي أحمد المستنجد بالله العباسي الهاشمي ، أيده الله بما أيد به عباده الصالحين ، آمين .
وصلنا كتابك الآمر بالنصيحة ، والحديث (( الدين النصيحة )) [رواه مسلم (55) في الإيمان ، عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه ] . ولولا هذا الحديث لما تصدرت لنصحك ، لأن نصيحة مثلك ـ بارك الله بك ـ لها شرطان :
الإخلاص من الناصح ، والقبول بشرط العمل بالنصيحة من أخيه . أيدك الله بتوفيقه ! .
يا أمير المؤمنين : إن أنت أنفذت أحكام كتاب الله ـ تعالى وتقدس ـ في نفسك ، نفذت أحكام كتبك في ملكه ، وإن عظمت أمر الله بأتباع رسوله عليه الصلاة والسلام ، واحتفلت بشأنه الكريم ، عظم الناس أعمالك وولاة الأمور من قبلك .
ولا تنظر يا أمير المؤمنين ما عليه القياصرة وملوك المجوس من القوة في ملكهم / مع انسلاخهم وبعدهم عن كل ما ذكرته ، فإنهم جهلوا الحق فأبعدهم عنه ، وقربهم من الدنيا ، وقربها منهم ، وولاهم أمر من شاء من خلقه .
فإن ساسوهم بما تسكن إليه أفئدتهم ، وتطمئن له طباعهم ، دام أمرهم في حجاب دنياهم إلى أن تنقطع حبال آجالهم ، وإن لم يسوسوهم بالرفق والمدارة ، وأوقعوا فيهم ما يثقل عليهم ، سلطهم عليهم ، فسلب دنيا قوم بقوم ، والنار مأوى الكافرين .
وأما أنت يا أمير المؤمنين : فحافظ ثغور ، وحارث دماء وأموال ، هزت بكل مفازتها سيوف الإسلام ، لا علماً لقدومك بعد حين ، ولا تمهيداً لك لتفعل برأيك ، إنما كان ذلك لله ورسوله .
فافزع في كل أمورك إلى الله ، وعظم في كل شؤونك أمر رسول الله ، وأنت حينئذ في أمان الله وظل نبيه ، نافذ الآمر ، ثابت السلطان ، مؤيد بجند الله وكلماته ، و ] لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ[ [من سورة يونس ، الآية (64) ] .
ثم زن يا أمير المؤمنين كل ما يصل إلى خويصة نفسك في هذه الدار من طعام تأكله ، وشراب تشربه ، ورداء ترتديه ، وظل تستظله ، واجعل الشره على الدنيا بقدر ذلك .
وإياك وظلم العباد ، وإذا استفزك الشيطان ورام نزغك إلى الظلم ، فسل نفسك أن لو كنت مسجوناً أو مظلوماً أو مقهوراً أو مكذوباً عليك ، ما الذي تريده لنفسك من سلطانك ؟ .
وعامل الناس بما تريده لنفسك ، فإنك إن فعلت ذلك ، وفيت العدل والآدمية حقها .
واعلم أن ما أنت فيه من الملك والدولة شيء يسير من ملك الله تعالى ، وأنت جزء صغير منه ، فإن رأيت لك شيئاً ، ونسيته وقمت تفعل فعل من يزعم مشاركته في ملكه ، فأهملت حقه ، وغدرت خلقه ، يصرف عنك عونه ونصره ، ولك فيمن باد عبرة .
ولا تنظر يا أمير المؤمنين إلى من صرفهم عن مشغلة الدنيا من أحبابه المقربين إليه ، كبعض الصحابة الذين نازعهم الناس ، وانتزعوا أزمة الدنيا من أيديهم ، لأن أولئك قوم أجتذبهم إليه ، ولى على الناس من يشاكلهم في أعمالهم ، وكل عن عمله مسؤول ،] وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ [من سورة الكهف الآية (49) ] .
يا أمير المؤمنين : ظلك ما أظلك ، ورداؤك ما سترك ، وطعامك ما أشبعك ، ومالك مالك منه شيء ، و ] لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ [ [ من سورة آل عمران ، الآية (128 ) ] ، إن ربي على ما يشاء قدير .
نعم أنت خاتم من خواتم القدر ، يطبع على أرواح الصور ، فيرفع الله به ويضع ، ويصل به ويقطع .
فإن أنت لزمت الأدب مع الفعال المطلق برعاية حق شرعه الذي شرع لعباده ، أثابك وأدار محور الوهب بك وبأهلك بعدك ، وإن أهملت أمره ، وهتكت ستر خلقه ، دخلت في أعداد الظالمين : ] وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [ [ من سورة البقرة الآية (27.) ] .
يا أمير المؤمنين : أهل الفهم السليم والذوق الصالح تجتمع همتهم على الحق ، ويترعرعون في بحبوحة العدل والإحسان ، فكبيرهم وصغيرهم ، أميرهم ومأمورهم ، حرهم وعبدهم / في الدين سواء ، ولكل منهم مقام معلوم .
لا تشب فيهم نار الشقاق ، ولا يتحكم فيهم سلطان سوء الأخلاق . يحكمون بما أنزل الله ، ولا يزالون في أمان الله .
ولو احتالوا في الحكم فجعلوا له وجهاً في الظاهر ، وأبطنوا الباطل ، يقول لهم الحكم العدل : ] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [ [ من سورة المائدة الآية (47) ] .
فإذا أظهروا الباطل ، وهيئوا له سبيلاً شرعياً ، أدخلته غلبتهم وشوكتهم في الحكم : قال الحق تعالى لهم ] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [ [ من سورة المائدة الآية (45) ] .
فإذا أظهروا الباطل وانتحلوا له سبيلاً من الرأي استصغاراً لحكمه الشرع ، وتعززاً بالأمر ، فحكموا به ، قال لهم المنتقم الجبار : ] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [[من سورة المائدة ، الآية44]
يا أمير المؤمنين : أروقة الأعمال لا تعمر في بأيدي الخيال ، ولا يصان حي إلا بمادة جامعة تلصق القلوب ببعضها ، وتدفع النزاع والتفرقة ، وما هي ـ والله ـ إلا الشرع العادل ، والسنة المحمدية الصالحة ، وكل ذلك أمر الله الذي طبع الطباع ، وعلم ما تطيب له وبه .
يرتاح الضعيف لطلب حقه من خصمه القوي ، وأنت تدري يا أمير المؤمنين أن أبن عمك إمام المسلمين علياً أمير المؤمنين كرم الله وجهه ، ورضي الله تعالى عنه ، حدث عن أبن عمه سيد المخلوقين أنه قال : " لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع " [رواه الطبراني ، وابن ماجة ] .والأمر والله كذلك .
وعلمت يا أمير المؤمنين من سيرة عمر بن الخطاب الفاروق الجليل رضي الله تعالى عنه : أنه لم يرهب فارس والروم والمغرب والصين والهند والبربر بفرش الديباج ، وبسط الحرير وكؤوس الجوهر والخيول المسومة ، والبيوت الشاهقة ، والأقواس المذهبة ، إنما أرهبهم بالعدل المحض ، وأفحم شوس رجالهم بالحكمة البالغة ، ألا وهي شريعة نبيك سيد الحكماء ، وبرهان العقلاء ، وإمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولتعلم ـ أمطر الله على قلبك سحاب الإلهام المبارك والتوفيق ، وأحكم أمرك بالأعوان الصالحين أهل الحكمة والنجدة ـ : إن الحق كامن تحت ضلوع الخاصة والعامة ، والمحق منهم والمبطل .
فربما أعانك عبدك على باطلك بيده ولسانه انقيادا لوقتك ، وأنكره عليك عبدك بسره ، وأضمر قلبه لك بعده السوء ، فلا يزكى ذكرك لديه ولو جعلته حراً ، ثم أكبرته ، ثم أستوزرته ، بل ولو كان أشد منك باطلاً ، وهذا سر الله المضمر في الحق .
واعلم أي سيدي : أن جيش الملوك / العدل ، وحراسهم أعمالهم ، ودفاتر أحوالهم عمالهم وأصحابهم ، وهذه دفاتر في أيدي العامة ، فاصلح دفتر أحوالك ، وأحكم حراستك ، وأيد جيشك .
وعليك بأهل العقل والدين ، وإياك وأرباب القسوة والغدر والضلالة فهم أعداؤك .
وصن أمرك من أن تلعب به النساء والأحداث والذين لا نخوة لهم ، فإنهم من دواعي الخراب والاضمحلال ، وإذا أحببت فحكم الإنصاف في عملك ، حتى لا تقدم غير محق ، أو ترفع بغير الحق .
وإذا كرهت فصل الله ، ونزه طبعك من جور الغدر ، فإن مكانك مكان الأمن ، يدور صاحبه مع الحق ، لا مع الغرض .
وإذا غضبت فاجنح للعفو ، فإن أخطأت فيه خير من أن تخطئ في العقوبة .
وأجعل بذلك ونوالك لأهل الدين والحكمة والغيرة للإسلام ، واختر منهم أشرفهم طبعاً ، وأكبرهم عقلاً ، وأوجزهم رأياً ونطقاً ، وأثبتهم حجة ، وأعلمهم بالله ورسوله .
وساو الناس براً وفاجراً ، مؤمناً وكافراً في باب عدلك ، واحفظ حرمة الدين وأهله ، واعمل عملاً تحسن به عاقبتك إذا لقيت ربك ، والله ولي التوفيق ] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [ [ من سورة البقرة ، الآية 156 ] ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته [ " المجالس الرفاعية " ص (38) ] .
تأثير نصيحته :
قال الأستاذ السيد محمود السامرائي الرفاعي بعد نقل هذه الرسالة الشريفة : " لما قرأه الخليفة بكى ، ثم قرأه ثانية وبكى ، حتى اخضلت لحيته بالدموع ، وتأوة تأوة الثكلى ، ولما هدأ روعه ، وسكن حاله ، التفت إلى حاجبه وقال :
" والله إن في لسان السيد أحمد نغمة من لسان جده عليه الصلاة والسلام ، ولا ريب ، فهذا الرجل بركة بلاد الله اليوم"
واخذ يسأل الحاجب عن قيامه وقعوده ولباسه واكله وشرابه وكلامه وما هو عليه ، وكلما ذكر له شيئاً أكثر البكاء ، حتى أمسك الحاجب عن الكلام ، رحمه الله " [ " المجالس الرفاعية " ص 38.
----------------
منقول من كتاب
الإمــام السيــد أحـمد الرفاعـي
مؤسس الطريقة الرفاعيـة
نسبه ـ نشأته ـ دعوته ـ كراماته وآثاره
تأليـــــف: السيد مصطفى الرفاعي الندوي
من علماء الهند وشيوخ الطريقة
---
ترجمة الحليفة العباسي المستنجدبالله
أمير المؤمنين المستنجد بالله
الاسم المعروف للخليفة: المستنجد بالله اسمه الكامل: المستنجد بالله ابن المقتفي لأمر الله ابن المستظهر بالله ابن المقتدي بأمر الله ابن محمد ابن القائم بأمر الله ابن القادر بأمر الله ابن المتقي لله ابن المقتدر بالله ابن المعتضد بالله ابن الموفق ابن المتوكل بالله ابن المعتصم بالله ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الكنية : أبو المظفر ترتيبه في تولي الخلافة: الثاني و الثلاثون تاريخ الميلاد: 518 فترة الخلافة بالهجري: 555 -566 فترة الخلافة بالميلادي: 1160 -1170 م تاريخ الوفاة: 566